وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى الْقِيَاسِ، وَهُوَ اقْتِبَاسُ الْحُكْمِ مِنْ مَعْقُولِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَسَنُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَيْهِ فِي الْقُطْبِ الرَّابِعِ فَإِنَّهُ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأُصُولِ الْمُثْمِرَةِ، وَمِثَالُهُ: حُكْمُنَا أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ مِنْ مَشْرُوبٍ أَوْ مَأْكُولٍ فَيُحَرَّمُ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ لِحِفْظِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، فَتَحْرِيمُ الشَّرْعِ الْخَمْرَ دَلِيلٌ عَلَى مُلَاحَظَةِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا شَهِدَ الشَّرْعُ لِبُطْلَانِهَا مِثَالُهُ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ لَمَّا جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ: إنَّ عَلَيْكَ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَأْمُرْ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ مَعَ اتِّسَاعِ مَالِهِ قَالَ: لَوْ أَمَرْتُهُ بِذَلِكَ لَسَهُلَ عَلَيْهِ وَاسْتَحْقَرَ إعْتَاقَ رَقَبَةٍ فِي جَنْبِ قَضَاءِ شَهْوَتِهِ، فَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي إيجَابِ الصَّوْمِ لِيَنْزَجِرَ بِهِ، فَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ وَمُخَالِفٌ لِنَصِّ الْكِتَابِ بِالْمَصْلَحَةِ وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ جَمِيعِ حُدُودِ الشَّرَائِعِ وَنُصُوصِهَا بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ.
ثُمَّ إذَا عُرِفَ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ الْعُلَمَاءِ لَمْ تَحْصُلْ الثِّقَةُ لِلْمُلُوكِ بِفَتْوَاهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ كُلَّ مَا يُفْتُونَ بِهِ فَهُوَ تَحْرِيفٌ مِنْ جِهَتِهِمْ بِالرَّأْيِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ مِنْ الشَّرْعِ بِالْبُطْلَانِ وَلَا بِالِاعْتِبَارِ نَصٌّ مُعَيَّنٌ وَهَذَا فِي مَحَلِّ النَّظَرِ فَلْنُقَدِّمْ عَلَى تَمْثِيلِهِ تَقْسِيمًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهَا فِي ذَاتِهَا تَنْقَسِمُ إلَى مَا هِيَ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورَاتِ وَإِلَى مَا هِيَ فِي رُتْبَةِ الْحَاجَاتِ وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّحْسِينَاتِ وَالتَّزْيِينَاتِ وَتَتَقَاعَدُ أَيْضًا عَنْ رُتْبَةِ الْحَاجَاتِ.
وَيَتَعَلَّقُ بِأَذْيَالِ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ الْأَقْسَامِ مَا يَجْرِي مِنْهَا مَجْرَى التَّكْمِلَةِ وَالتَّتِمَّةِ لَهَا وَلْنَفْهَمْ أَوَّلًا مَعْنَى الْمَصْلَحَةِ ثُمَّ أَمْثِلَةَ مَرَاتِبِهَا: أَمَّا الْمَصْلَحَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ فِي الْأَصْلِ عَنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ ذَلِكَ، فَإِنَّ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ مَقَاصِدُ الْخَلْقِ وَصَلَاحُ الْخَلْقِ فِي تَحْصِيلِ مَقَاصِدِهِمْ، لَكِنَّا نَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ الْمُحَافَظَةَ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ وَمَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنْ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ: وَهُوَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَنَفْسَهُمْ وَعَقْلَهُمْ وَنَسْلَهُمْ وَمَالَهُمْ، فَكُلُّ مَا يَتَضَمَّنُ حِفْظَ هَذِهِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ، وَكُلُّ مَا يُفَوِّتُ هَذِهِ الْأُصُولَ فَهُوَ مَفْسَدَةٌ وَدَفْعُهَا مَصْلَحَةٌ.
وَإِذَا أَطْلَقْنَا الْمَعْنَى الْمُخَيَّلَ وَالْمُنَاسِبَ فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ أَرَدْنَا بِهِ هَذَا الْجِنْسَ. وَهَذِهِ الْأُصُولُ الْخَمْسَةُ حِفْظُهَا وَاقِعٌ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورَاتِ، فَهِيَ أَقْوَى الْمَرَاتِبِ فِي الْمَصَالِحِ وَمِثَالُهُ: قَضَاءُ الشَّرْعِ بِقَتْلِ الْكَافِرِ الْمُضِلِّ وَعُقُوبَةِ الْمُبْتَدِعِ الدَّاعِي إلَى بِدْعَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا يُفَوِّتُ عَلَى الْخَلْقِ دِينَهُمْ، وَقَضَاؤُهُ بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ أَدَبُهُ حِفْظُ النُّفُوسِ، وَإِيجَابُ حَدِّ الشُّرْبِ إذْ بِهِ حِفْظُ الْعُقُولِ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ التَّكْلِيفِ وَإِيجَابُ حَدِّ الزِّنَا إذْ بِهِ حِفْظُ النَّسْلِ وَالْأَنْسَابِ، وَإِيجَابُ زَجْرِ الْغُصَّابِ وَالسُّرَّاقِ إذْ بِهِ يَحْصُلُ حِفْظُ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ مَعَاشُ الْخَلْقِ وَهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَيْهَا.
وَتَحْرِيمُ تَفْوِيتِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ وَالزَّجْرِ عَنْهَا يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا تَشْتَمِلَ عَلَيْهِ مِلَّةٌ مِنْ الْمِلَلِ وَشَرِيعَةٌ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي أُرِيد بِهَا إصْلَاحُ الْخَلْقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَخْتَلِفْ الشَّرَائِعُ فِي تَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ. أَمَّا مَا يَجْرِي مَجْرَى التَّكْمِلَةِ وَالتَّتِمَّةِ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَكَقَوْلِنَا: الْمُمَاثَلَةُ مَرْعِيَّةٌ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ وَالتَّشَفِّي وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْمِثْلِ، وَكَقَوْلِنَا: الْقَلِيلُ مِنْ الْخَمْرِ إنَّمَا حُرِّمَ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ النَّبِيذُ فَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الشَّرَائِعُ.
أَمَّا تَحْرِيمُ السُّكْرِ فَلَا تَنْفَكُّ عَنْهُ شَرِيعَةٌ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ يَسُدُّ بَابَ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ.
174/1
الكتاب: المستصفى
المؤلف: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ)
تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي
الناشر: دار الكتب العلمية
الطبعة: الأولى، 1413هـ - 1993م
عدد الأجزاء:1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]